فصل: تفصيل وتحقيق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.تفصيل وتحقيق:

يقع كثيرا في كلام أهل العقائد من علماء الحديث والفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته ويقع للمتكلمين أنة لا مباين ولا متصل ويقع للفلاسفة أنة لا داخل العالم ولا خارجه ويقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات: إما بمعنى الحلول فيها أو بمعنى إنه هو عينها وليس هناك غيره جملة ولا تفصيلا فلنبين تفصيل هذه المذاهب ونشرح حقيقة كل واحد منها حتى تتضح معانيها فنقول إن المباينة تقال لمعنيين:
أحدهما المباينة في الحيز والجهة ويقابله الاتصال ونشعر هذه المقابلة على هذه التقيد بالمكان إما صريحا وهو تجسيم أو لزوما وهو تشبيه من قبيل القول بالجهة وقد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة فيحتمل غير هذا المعنى ومن أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة وقالوا: لا يقال في البارئ أنة مباين مخلوقاته ولا متصل بها لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات وما يقال من أن المحل لا يخلو عي الاتصاف بالمعنى وضده فهو مشروط بصحة الاتصاف أولا وأما مع امتناعه فلا بل يجوز الخلو عن المعنى وضده كما يقال في الجماد لا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا كاتب ولا أمي وصحة الاتصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول في الجهة على ما تقرر من مدلولها والبارئ سبحانه منزه عن ذلك ذكره ابن التلمساني في شرح اللمع لإمام الحرمين وقال: ولا يقال في البارئ مباين للعالم ولا متصل به ولا داخل فيه ولا خارج عنة وهو معنى ما يقول الفلاسفة أنة لا داخل العالم ولا خارجه يناء على وجود الجواهر غير المتحيزة وأنكرها المتكلمون لما يلزم من مساواتها للبارئ في أخص الصفات وهو مبسوط في علم الكلام.
وأما المعنى الآخر للمباينة فهو المغايرة والمخالفة فيقال: البارئ مباين لمخلوقاته في ذاته وهويته ووجوده وصفاته ويقابله الاتحاد والامتزاج والاختلاط وهذه المباينة هي مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف وعلماء الشرائع والمتكلمين والمتصوفة الأقدمين أهل الرسالة ومن نحا منحاهم وذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيروا المدارك الوجدانية علمية نظرية إلى أن البارئ تعالى متحد بمخلوقاته في هويته ووجوده وصفاته وربما زعموا أنة مذهب الفلاسفة قبل أرسطو مثل أفلاطون وسقراط وهو الذي يقينه المتكلمون حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصوفة ويحاولون الرد عليه لأنه ذاتان تنتفي إحداهما أو تندرج اندراج الجزء فإن تلك مغايرة صريحة ولا يقولون بذلك وهذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح عليه السلام وهو أغرب لأنه حلول قديم في محدث أو اتحاده به وهو أيضا عين ما تقوله الإمامية من الشيعة في الأئمة وتقرير هذا الاتحاد في كلامهم على طريقين:
الأولى: أن ذات القديم كائنة في المحدثات محسوسها ومعقولها متحدة بها في المتصورين وهي كلها مظاهر له وهو القائم عليها أي المقدم لوجودها بمعنى لولاه كانت عدما وهو رأي أهل الحلول.
الثانية: طريق أهل الوحدة المطلقة وكأنهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيرية المنافية لمعقول الاتحاد فنفوها بين القديم وبين المخلوقات في الذات والوجود والصفات وغالطوا في غيرية المظاهر المدركة بالحس والعقل بأن ذلك من المدارك البشرية وهي أوهام ولا يريدون الوهم الذي هو قسيم العلم والفن والشك إنما يريدون أنها كلها عدم في الحقيقة ووجود في المدرك البشري فقط ولا وجود بالحقيقة إلا للقديم لا في الظاهر ولا في الباطن كما نقرره بعد بحسب الإمكان والتعويل في تعقل ذلك على النظر والاستدلال كما في المدارك البشرية غير مفيد لأن ذلك إنما نقل من المدارك الملكية وإنما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة ومن بعدهم للأولياء بهدايتهم وقصد من يقصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال وربما قصد بعض المصنفين ذلك في كشف الموجودات وترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى بالأغمض فالأغمض.
وربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود وترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر والاصطلاحات والعلوم كما فعل الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض في الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل وترتيبه أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية وهما معا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير ويسمون هذا الصدور بالتجلي وأول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه وهو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد والظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه: كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني وهذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود وتفصيل الحقائق وهو عندهم عالم المعاني والحضرة الكمالية والحقيقة المحمدية وفيها حقائق الصفات واللوح والقلم وحقائق الأنبياء والرسل أجمعين والكمل من أهل الملة المحمدية وهذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائية وهي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك ثم عالم العناصر ثم عالم التركيب هذا في عالم الرتق فإذا تجلت فهي في عالم الفتق ويسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلي والمظاهر والحضرات وهو كلام لا يقتدر أهل النظر إلى تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل وربما أنكر بظاهر الشرع هذا الترتيب وكذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة وهو رأي أغرب من الأول في تعقله وتفاريعه يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات وصورها وموادها والعناصر إنما كانت بما فيها من القوى وكذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها وزيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية وزيادة قوتها في نفسها وكذا القوة الإنسانية مع الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة وكذا الذوات الروحانية والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية وجزئية وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصورة ولا من جهة المادة فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية وهي في الحقيقة واحدة بسيطة والاعتبار هو المفصل لها كالإنسانية مع الحيوانية ألا ترى أنها مندرجة فيها وكائنة بكونها فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع في كل موجود كما ذكرناه وتارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال وهم في هذا كله يفرون من التركيب والكثرة بوجه من الوجوه وإنما أوجبها عندهم الوهم والخيال والذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما تقوله الحكماء في الألوان من أن وجودها مشروط بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي بل والموجودات المعقولة والمتوهمة أيضا مشروطة بوجود المدرك العقلي فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد فالحر والبرد والصلابة واللين بل والأرض والماء والنار والسماء والكواكب إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود وإنما هو في المدارك فقط فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل إنما هو إدراك واحد وهو أنا لا غيره ويعتبرون ذلك بحال النائم فإنه إذا نام وفقد الحس الظاهر فقد كل محسوس وهو في تلك الحال إلا ما يفصله له الخيال قالوا: فكذا اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري ولو قدر فقد مدركه فقد التفصيل وهذا هو معنى قولهم الموهم لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية هذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان وهو في غاية السقوط لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون عنه وإليه يقينا مع غيبته عن أعيننا وبوجود السماء المظلة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنا والإنسان قاطع بذلك ولا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة ويسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات ويعبرون عن ذلك بمقام الفرق وهو مقام العارف المحقق ولابد للمريد عندهم من عقبة الجمع وهي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة ثم إن كل هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه وملئوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له وغيره وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فضول التصوف منها فقال: جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي وإنما هو من أنواع الخطابة وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به ثم قالوا بترتيب وجود الإبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم ونحلتهم رفعوه إلى علي رضي الله عنه وهو من هذا المعنى أيضا وإلا فعلي رضي الله عنه لم يختص من بين الصحابة بتخليه ولا طريقة في لباس ولا حال بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة.
تشهد بذلك سيرهم وأخبارهم نعم إن الشيعة يخيلون بما ينعلون من ذلك اختصاص علي رضي الله عنه بالفضائل دون من سواه من الصحابة ذهابا مع عقائد التشيع المعروفة لهم والذي يظهر أني المتصوفة بالعراق لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة وظهر كلامهم في الإمامة وما يرجع إليها ما هو معروف فاقتبسوا من ذلك الموزانة بين الظاهر والباطن وجعلوا الإمامة لسياسة الخلف في الانقياد إلى الشرع وأفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر في الشرع ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين وأفردوه بذلك تشبيها بالإمام في الظاهر وأن يكون على وزانه في الباطن وسموه قطبا لمدار المعرفة عليه وجعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة في التشبيه فتأمل ذلك.
يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي وما شحنوا كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم والله يهدي إلى الحق.